أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

التحديات التربوية في عصر التكنولوجيا: كيف نحافظ على تركيز الأطفال؟




التحديات التربوية في عصر التكنولوجيا

يعيش أطفال اليوم في عالم مختلف تمامًا عن عالم آبائهم، عالمٍ تحكمه الشاشات وتملؤه الألوان والحركة السريعة.
لقد أصبحت التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من حياتهم اليومية، من الهواتف الذكية إلى الألعاب الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.
هذه الوسائل، رغم فوائدها الكبيرة في التعليم والتطور، فرضت واقعًا جديدًا على التربية.
فالمعلومة أصبحت متاحة بضغطة زر، والخيال تغذّيه الصور والفيديوهات دون حدود.
لكن في خضم هذا الانفتاح الرقمي، يواجه المربّون تحديًا متزايدًا يتمثل في ضعف تركيز الأطفال.
فكل إشعار أو لعبة أو إعلان يسرق من انتباههم لحظة بعد أخرى.
أصبح الصبر والهدوء نادرين أمام سيل المشتتات الرقمية المستمر.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: كيف نحافظ على تركيز الأطفال في هذا العصر التكنولوجي السريع؟

أولًا: مظاهر تشتّت الانتباه لدى الأطفال

أصبح العديد من الأطفال اليوم غير قادرين على الجلوس لفترة طويلة للقراءة أو الدراسة أو حتى لإجراء حديث بسيط دون النظر إلى شاشة، وهو ما يعكس ضعفًا واضحًا في قدرتهم على التركيز. فواحدة من أبرز العلامات التي تدل على هذا الضعف هي الانتقال السريع بين الأنشطة دون إتمامها، حيث تلاحظ أن الطفل يبدأ في اللعب بلعبة ثم يتركها بعد دقائق ليفتح تطبيقًا آخر أو يشاهد مقطع فيديو جديدًا، وكأن ذهنه لا يستطيع البقاء في نشاط واحد لفترة كافية. كذلك، يظهر التململ أثناء الدروس أو المذاكرة، إذ يشعر الطفل بالملل بسرعة ويبدأ بالتحرك أو طلب فترات راحة متكررة، لأنه اعتاد على الإيقاع السريع الذي توفره الشاشات. أما تراجع القدرة على الحفظ والاستيعاب فينتج عن قلة التركيز العميق، فالعقل الذي يتنقل بسرعة بين الصور والمقاطع لا يجد وقتًا لمعالجة المعلومات بعمق. كما أن هناك حاجة مستمرة إلى التحفيز البصري، فالأطفال الذين اعتادوا على الألوان الزاهية والحركات المتكررة في الفيديوهات يجدون صعوبة في متابعة أنشطة لا تحتوي على مؤثرات بصرية قوية، مثل القراءة أو الاستماع للشرح. وأخيرًا، نلاحظ الاعتماد الزائد على الأجهزة الإلكترونية للترفيه، إذ لم يعد اللعب الواقعي أو التفاعل الاجتماعي كافيًا لإسعاد الطفل، بل يبحث دائمًا عن المتعة عبر الشاشة فقط. كل هذه المظاهر لا تعني بالضرورة أن الطفل يعاني من مشكلة نفسية، لكنها تشير بوضوح إلى تأثير مباشر للتكنولوجيا على طريقة عمل دماغه، إذ أعادت تشكيل انتباهه ليصبح قصير المدى وسريع التشتت، مما يتطلب تدخلًا تربويًا متوازنًا لاستعادة قدرته على التركيز.

ثانيًا: الأسباب الخفية وراء ضعف التركيز

1. التعرض المفرط للشاشات
إن الإفراط في استخدام الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية يجعل الطفل يعيش في عالم مليء بالحركة السريعة والمؤثرات البصرية المتتابعة. فالمحتوى الرقمي اليوم — من ألعاب الفيديو إلى مقاطع “الريلز” القصيرة — يُغذّي الدماغ بصور متجددة كل ثانية، مما يُحدث نوعًا من “الإدمان على السرعة”. وبمرور الوقت، يعتاد دماغ الطفل على هذا الإيقاع المتسارع في معالجة المعلومات، فيجد صعوبة في التعامل مع الأنشطة البطيئة مثل القراءة، الكتابة، أو حتى الاستماع للشرح المدرسي. وهكذا يفقد الطفل صبره على أي نشاط يتطلّب تفكيرًا عميقًا أو تركيزًا طويل المدى، لأن دماغه أصبح مبرمجًا على التنقل السريع بين المحفزات.

2. قلة التفاعل الواقعي
في الماضي، كان الأطفال يقضون وقتًا طويلًا في اللعب الجماعي في الشارع أو المدرسة، يتحدثون، يتفاوضون، ويخططون، وهو ما كان يطوّر لديهم مهارات التركيز والانتباه والتواصل. أما اليوم، فقد حلت الألعاب الإلكترونية محل هذا التفاعل الإنساني الواقعي. يقضي الطفل ساعات أمام الشاشة يتفاعل مع شخصيات افتراضية بدلًا من أصدقاء حقيقيين، ما يقلّل تدريجيًا من قدرته على التركيز في المواقف الاجتماعية الواقعية. هذا النقص في التجارب الحية يجعله أقل صبرًا عند التعامل مع الآخرين، وأضعف في مهارات الإصغاء والفهم، لأن العالم الرقمي لا يتطلب منه انتظارًا أو تركيزًا عميقًا على شخص حقيقي.

3. الإرهاق الذهني
كثرة المعلومات التي يتلقاها الطفل يوميًا من الإنترنت ومقاطع الفيديو ومواقع التواصل تخلق ما يُعرف بـ"التشبّع الذهني". فالعقل الصغير يتعرّض يوميًا لعشرات الصور والأخبار والمقاطع، وهو ما يجعله في حالة نشاط دائم لا راحة فيها. وعندما يحين وقت الدراسة أو الحفظ، يشعر الطفل بالإرهاق والتشتت لأنه استهلك جزءًا كبيرًا من طاقته الذهنية في أمور سطحية. هذا الإرهاق لا يكون جسديًا فقط، بل أيضًا عقليًا، إذ يفقد الطفل القدرة على التركيز في التفاصيل أو الاحتفاظ بالمعلومات الجديدة، لأن دماغه مشغول بما رآه سابقًا من محتوى سريع ومتنوع.

 4. غياب الروتين المنظّم في البيت
يحتاج الأطفال إلى نظام يومي واضح يُنظّم حياتهم، لأن غياب الروتين يخلق فوضى ذهنية تجعل من الصعب ضبط الانتباه. عندما لا تكون هناك ساعات محددة للنوم، أو أوقات ثابتة للدراسة، أو حتى مواعيد ثابتة للأكل والترفيه، يعيش الطفل في حالة من العشوائية. ومع مرور الوقت، يتأثر نظامه العصبي والذهني، فيصبح مشتتًا ولا يعرف متى يجب أن يركّز أو يسترخي.  أما الروتين المنظم لا يحدّ من حرية الطفل، بل يمنحه إحساسًا بالأمان والسيطرة، وهو ما يعزز قدرته على التركيز والالتزام بالمهام المطلوبة منه.

ثالثًا: كيف نحافظ على تركيز الأطفال؟

إن الحل لا يكمن في منع التكنولوجيا تمامًا، لأننا لا نستطيع عزل الطفل عن عصره، بل في إدارتها بذكاء وتوازن. فالتربية الواعية اليوم لا تقوم على المنع، بل على التوجيه والتحكم في الاستخدام. وفيما يلي أبرز الحلول العملية للحفاظ على تركيز الأطفال في زمن المشتتات الرقمية 

 1. تنظيم وقت استخدام الأجهزة
من المهم أن يكون هناك جدول واضح يحدد للطفل أوقات استخدام الأجهزة الإلكترونية، بحيث لا يتجاوز المجموع ساعة أو ساعتين في اليوم. كما يجب تحديد نوعية المحتوى المسموح به، لأن مشاهدة مقاطع تعليمية مختلفة تمامًا عن ألعاب العنف أو الفيديوهات السريعة. ومن الأفضل أن يُسمح باستخدام الأجهزة بعد إنجاز الواجبات المدرسية وليس قبلها، حتى لا يضيع الوقت في التسلية ويصعب عليه العودة إلى الدراسة. هذا التنظيم يساعد الطفل على إدراك أن التكنولوجيا وسيلة وليست هدفًا، وأنها تأتي بعد أداء الواجبات وليس قبلها.

 2. خلق بيئة هادئة للدراسة
البيئة التي يدرس فيها الطفل تؤثر كثيرًا على قدرته على التركيز. لذلك، من الضروري اختيار مكان ثابت للمذاكرة يكون بعيدًا عن التلفاز والهاتف، ويفضَّل أن تكون الطاولة منظمة والأدوات في مكانها المخصص. كما أن الإضاءة الجيدة والهواء النقي والعزلة عن الضوضاء كلها عوامل تساعد على تركيز طبيعي ومستمر. كلما كانت بيئة الدراسة مريحة ومرتبة، شعر الطفل بالاستقرار الذهني الذي يحتاجه للانتباه والفهم.

 3. التدريب على الصبر والانتباه
التركيز مهارة يمكن تدريبها مثل أي مهارة أخرى. يمكن البدء بأنشطة قصيرة تتطلب الانتباه مثل القراءة لمدة عشر دقائق، ثم زيادة الوقت تدريجيًا حتى تصبح نصف ساعة أو أكثر. كما يمكن استخدام ألعاب تعليمية تنمّي مهارات الملاحظة والذاكرة مثل تركيب الصور (Puzzle)، لعبة “أين الاختلاف؟”، أو ألعاب الذاكرة بالكروت. هذه الأنشطة لا تشعر الطفل بالملل، بل تعلّمه التركيز بطريقة ممتعة وتدريجية.

 4. تشجيع الأنشطة الواقعية
الأنشطة الواقعية، مثل ممارسة الرياضة، الرسم، الزراعة، الطبخ أو الألعاب الجماعية، تُعيد للطفل توازنه الطبيعي بين العالم الرقمي والعالم الحقيقي. فهي تنشّط حواسه، وتربطه بالواقع، وتطوّر قدرته على التركيز في المهام الحسية والعملية. عندما يُشارك الطفل في نشاط ملموس يستخدم فيه يديه وعقله، يصبح أكثر هدوءًا وقدرة على التحكم في انتباهه.

 5. التواصل الإيجابي مع الطفل
بدلًا من إصدار الأوامر أو العقاب عند استخدام الهاتف، من الأفضل مناقشة الطفل بهدوء حول أسباب تقليص وقت الشاشة. يمكن شرح التأثيرات السلبية بطريقة بسيطة ومقنعة، مع التأكيد أن الهدف هو الحفاظ على صحته ونجاحه، لا معاقبته. عندما يشعر الطفل أن والديه يفهمانه ويحترمان رأيه، فإنه يتعاون بسهولة ويتقبل القواعد دون مقاومة.

 6. أن يكون الوالدان قدوة
الطفل يتعلم من أفعال والديه أكثر مما يتعلم من كلماتهم. فإذا رأى والده أو والدته ممسكين بالهاتف لساعات طويلة، فسيعتبر أن هذا سلوك طبيعي وسيقلده. لذلك، من المهم أن يُظهر الوالدان انضباطًا في استخدام الأجهزة أمام أطفالهم، كأن يتركا الهاتف أثناء تناول الطعام أو أثناء الجلسات العائلية. هذه القدوة الصامتة تغرس في الطفل احترام الوقت وفهم أهمية التوازن بين التكنولوجيا والحياة الواقعية.

رابعًا: دور المدرسة والمجتمع

إنّ مسؤولية الحفاظ على تركيز الأطفال لا تقع على الأسرة وحدها، بل هي مسؤولية مشتركة بين الأسرة، والمدرسة، والمجتمع بكل مؤسساته التربوية والإعلامية. فالطفل يقضي جزءًا كبيرًا من يومه في المدرسة ويتأثر بما يراه في محيطه الاجتماعي، لذلك لا يمكن تحقيق تربية متوازنة دون تعاون الجميع في الاتجاه نفسه.

 1. دمج التكنولوجيا في التعليم بطريقة تربوية
بدلًا من منع الأجهزة الرقمية في المدرسة بشكل تام، يمكن توجيه استخدامها نحو ما هو نافع. فالمعلمون اليوم قادرون على تحويل التكنولوجيا إلى أداة تعليمية ممتعة من خلال التطبيقات التفاعلية أو الألعاب التعليمية التي تنمّي مهارات التفكير والتحليل بدلًا من التسلية الفارغة. على سبيل المثال، يمكن استخدام تطبيقات تساعد في تعلّم اللغات، أو برامج تُنمّي القدرة على حلّ المشكلات بطريقة مسلية. بهذه الطريقة، لا تصبح التكنولوجيا عدوًّا للتربية، بل شريكًا فعّالًا في دعم الانتباه والتعلّم.

 2. تخصيص حصص للتوعية الرقمية
من المهم أن تُدرج المدارس ضمن برامجها دروسًا أو ورشات توعوية تُعرّف الأطفال بمخاطر الاستخدام المفرط للتكنولوجيا، وتعلّمهم كيفية التعامل الآمن مع الإنترنت. يمكن أن تشمل هذه الحصص مواضيع مثل كيفية حماية الخصوصية، وخطر الإدمان الرقمي، وأهمية تنظيم الوقت بين الدراسة والترفيه. هذا النوع من التثقيف يُكسب الطفل وعيًا ذاتيًا يجعله قادرًا على ضبط سلوكه الرقمي بنفسه، بدل أن يعتمد فقط على رقابة الأهل أو المعلمين.

 3. تشجيع الأنشطة اليدوية والرياضية
تلعب الأنشطة المدرسية دورًا جوهريًا في تطوير التركيز والانتباه لدى الأطفال. فالمشاركة في الأنشطة اليدوية مثل الأشغال الفنية، الرسم، والزخرفة تُساعد الطفل على استخدام يديه وعينيه بطريقة منسجمة، مما ينمّي قدرته على الصبر والانتباه للتفاصيل. أما الأنشطة الرياضية، فهي تُساعد على تصريف الطاقة الزائدة التي قد تعيق التركيز، كما تغرس في الطفل قيم الانضباط والعمل الجماعي. كل نشاط واقعي يشارك فيه الطفل يُعيد توازنه ويخفّف من تأثير العالم الرقمي على دماغه وسلوكه.

 4. دور الإعلام والمؤسسات التربوية في نشر ثقافة الاستخدام الواعي
لا يكفي أن نحذر الأطفال من التكنولوجيا، بل يجب أن نُرشدهم إلى الطريقة الصحيحة لاستخدامها. وهنا يأتي دور الإعلام والمؤسسات التربوية في نشر الوعي المجتمعي حول الاستخدام المتوازن للأجهزة الإلكترونية. يمكن إنتاج برامج تلفزيونية أو محتويات رقمية تشرح بطريقة مبسطة للأطفال والآباء كيفية التعامل مع الشاشات دون إدمانها. كما يمكن للمدارس والجمعيات تنظيم حملات توعوية وندوات للآباء حول التربية الرقمية. بهذه الجهود المشتركة، يتحول الوعي من مجرد تحذير إلى ثقافة عامة يعيشها المجتمع بأسره.

وهكذا، يصبح للمدرسة والمجتمع دور أساسي في دعم الأسرة في مهمتها التربوية، لأن الطفل الذي يتلقى الرسائل نفسها في البيت والمدرسة والمجتمع، ينشأ على توازن فكري وسلوكي يمكّنه من التعامل مع التكنولوجيا بوعي وانضباط.

إنّ التكنولوجيا ليست عدوًّا للتربية، بل يمكن أن تكون أداة عظيمة لبناء العقول وتنمية القدرات إذا أُحسن استعمالها. فهي تمنح الطفل فرصًا واسعة للتعلم والاكتشاف والتواصل، ولكنها في الوقت نفسه تحمل مخاطر كبيرة إذا استُخدمت دون توجيه أو حدود. لذلك، فإن الحفاظ على تركيز الأطفال لا يتحقق عبر المنع الكامل أو العقاب، بل من خلال تحقيق التوازن بين عالمهم الرقمي وحياتهم الواقعية، وبين حاجتهم للترفيه ومسؤولياتهم الدراسية. إنّ التربية في عصر التكنولوجيا تتطلب وعيًا من الأهل والمعلمين، وقدوة عملية في استخدام الأجهزة، لأن الأطفال يتعلمون من الأفعال أكثر مما يتعلمون من الكلمات. وعندما نساعد أبناءنا على تنظيم وقتهم، وضبط بيئتهم، والانخراط في أنشطة واقعية تُحفّز أدمغتهم وتُقوّي تركيزهم، فإننا نمنحهم السلاح الحقيقي لمواجهة تحديات هذا العصر المتسارع، وهو الانتباه والوعي الذاتي. فالتربية الحديثة لا تسعى إلى عزل الطفل عن التكنولوجيا، بل إلى تسليحه بالبصيرة والانضباط الذاتي ليستخدمها بحكمة ويُسخّرها لبناء مستقبله، لا ليكون أسيرًا لها.

تعليقات