أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

هل تتمنى أن يكبر طفلك وهو يحب الله؟ إليك البداية الصحيحة التي يجهلها كثيرون


طفلك  يحب الله


من أعظم الأمنيات التي يحملها قلب كل أبٍ محب: أن يرى ابنه يكبر بقلبٍ متعلقٍ بالله، لا يُصلّي مجاملة، ولا يقرأ القرآن إرضاءً لأحد، بل حبًا لله، شوقًا له، وحياءً منه.
لكننا، في زحمة التربية، نسأل السؤال الخطأ: كيف أعلّم طفلي عن الله؟ بينما السؤال الأهم هو:
"كيف أجعل طفلي يحب الله؟"
الله تعالى قال:
"وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ"
[سورة البقرة: 165]
فالإيمان الحقيقي لا يقوم على الخوف فقط، بل على المحبة التي تملأ القلب، وتوجّهه إلى الطاعة بفرح لا بإكراه.
وهنا يكمن السر الذي يجهله كثير من الآباء:
أن الحب الإيماني لا يُلقَّن بالمحاضرات، بل يُبنى بالمعايشة، بالتكرار اللطيف، وبالقدوة الحيّة.
في هذا المقال، سنكتشف معًا الخطوات الأولى لبناء علاقة حب عميقة بين الطفل وربه، عبر أساليب عملية ومواقف يومية بسيطة، مدعومة بآيات من كتاب الله، وأحاديث صحيحة من سنة النبي محمد ﷺ، دون ترهيب ولا تكلف.

هل يكفي أن نقول للطفل: "أحبِب الله"؟

لماذا لا تُثمر التوجيهات المباشرة غالبًا؟ وما الفرق بين المعلومة والشعور؟

في خضم انشغال الآباء بتربية أبنائهم على الدين، نجد من يحرص على أن يعلّم طفله الصلاة، وآخر يحفّظه السور، وثالث يلقّنه أن الله يحب كذا ولا يحب كذا… لكن قليلون فقط ينتبهون إلى أعمق وأخطر سؤال:
"هل يشعر طفلي حقًا بحب لله؟ أم أنه فقط يردد ما أقول خوفًا أو طاعة مؤقتة؟"
أن تقول لطفلك: "أحبِب الله!"، أمر جميل، لكنه غير كافٍ إطلاقًا، بل قد يُولد في قلبه تناقضًا لو لم يفهم لماذا يحب الله، أو كيف يحب الله، أو لم يشعر بذلك فيك أولًا.
إن حب الله ليس أمرًا يُلقَّن كجدول الضرب، وليس عاطفةً تنشأ بالأوامر.
الحب شعور قلبي يتكوّن من تراكم المواقف، ومن تجارب إيجابية تربط بين الله وبين الأمن، والحنان، والرحمة، والجمال.

يقول الله تعالى:
"وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ"
[سورة البقرة: 165]
هذه الآية تكشف لنا حقيقة عميقة: أن المؤمن الصادق لا يُحب الله فحسب، بل يحبّه بشدة، بمحبةٍ تسبق كل شيء، وتوجّه كل شيء.
لكن هذه المحبة لا تنشأ فجأة. هي نتاج تربية نفسية وروحية تبدأ منذ الطفولة، وتُبنى على أساس عاطفي قوي.
التوجيهات المباشرة مثل: "الله يحب الطيبين – لا تكذب – لا تغضب الله – الله سيراك..."
كلها جُمَل صحيحة، لكنها إن قُدمت بدون مشاعر ووعي وسياق تربوي رحيم، فإن الطفل يتلقّاها كعبارات مرعبة أو باردة، لا يعرف كيف يتفاعل معها، فيتجه لتصرفات ظاهرية لا تعبّر عن حب داخلي حقيقي.
ومن هنا يجب أن نميّز بين "المعلومة" و"الشعور".
أن يعرف الطفل أن الله هو الخالق... معلومة.
أن يشعر أن الله يحبه، ويرعاه، ويحنو عليه... شعور.
أن يعرف أن الصلاة فريضة... معلومة.
أن يشتاق للصلاة لأنه يلتقي فيها بربه... شعور.
والمعلومة بلا شعور تتحول إلى واجب ثقيل، بينما الشعور إذا سبق المعلومة، فإنه يفتح لها أبواب القلب والعقل.
قال رسول الله ﷺ:
"إنما العلم بالتعلُّم، وإنّما الحِلم بالتحلُّم"
[رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني]
فكما أن الأخلاق لا تُولد جاهزة، بل تُكتسب بالتدرّب، فكذلك حب الله يُغرس بالمعايشة، وبالمواقف المتكررة التي تترك أثرًا في القلب.
ولهذا، فالسؤال الأهم ليس:
"هل قلتُ له أن يحب الله؟"
بل:
"هل جعلته يشعر أن الله جميل؟ أن الله قريب؟ أن الله يحبّه؟"
فلا شيء يولّد الحب في قلب الطفل كأن يرى الله في عينيك، في تصرفاتك، في حديثك عن نعمه، في رحمتك به، وفي دعائك له أمامه.
فكما يُحب الطفل من يطعمه، ويرعاه، ويداعبه… سيُحب الله حين يراه عبرك، لا حين يسمع اسمه منك فقط.

الحب يبدأ من القدوة... فماذا يرى طفلك فيك؟

في رحلة التربية الإيمانية، لا شيء يُعلّم الطفل أعظم من القدوة الحية.
فالأطفال لا يتعلمون بالإرشاد بقدر ما يتعلمون بالمشاهدة.
هم يلاحظونك دون أن تتحدث، يقلدونك دون أن تطلب، وينسخون مشاعرك قبل أن يحفظوا كلماتك.

فإن أردت أن يحب ابنك الله حقًا، فليكن أول ما يراه فيك: أنك تحب الله.

ليرك تصلي لا كمن يؤدي فرضًا ثقيلًا، بل كمن يناجي حبيبًا.
ليسمعك تذكر الله لا كواجب، بل كراحة.
ليلاحظ أنك تقول: "الحمد لله" وأنت تبتسم، لا وأنت متكلف.
ليرَ في سلوكك رحمة الناس، بر الوالدين، صدق الحديث، عفة اللسان… حينها سيُدرك أن القرب من الله يعني جمالًا وإنسانية، لا فقط أوامر ونواهي.
يقول الله عز وجل:
"لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ"
[الأحزاب: 21]
وهذا المبدأ لا يقتصر على الكبار، بل يُعد أساسًا في تربية الصغار؛ فهم يحتاجون إلى أسوة قريبة منهم، يرونها كل يوم، ويثقون بها.
كم من أب يقول لابنه: "صلِّ، اقرأ القرآن، لا تكذب"،
لكن الطفل لم يره يومًا يصلي بخشوع، أو يبكي من خشية الله، أو يطلب المغفرة في جوف الليل.
كيف يمكن للطفل أن يحب الله، وهو لا يرى في بيته من يُظهر هذا الحب؟
وقد قال النبي ﷺ:
"مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين..."
[رواه أبو داود وصححه الألباني]
لكن الملاحَظ هنا أن الأمر بالصلاة لا يكون له وزن حقيقي إن لم يُرَ الأب يصلي أولًا، ويهتم بها لا كعادة، بل كشوق.
حتى الرحمة التي نظنها خلقًا مستقلًا، هي في الحقيقة أثر من آثار الإيمان.
ففي الحديث الصحيح:
"الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"
[رواه الترمذي وصححه الألباني]
وحين يرى الطفل والده يرحم الناس، يُسعف المحتاج، يبتسم للضعيف، يغفر الزلل… سيفهم أن الله – الذي تعبده الأسرة – هو إله رحيم، مُحب، لطيف.
وحين يرى عكس ذلك… تبدأ صورة الله في ذهنه بالتشوّه دون أن يدري.
إن القدوة ليست رفاهية تربوية، بل هي القاعدة الذهبية في التربية الإيمانية.
فمن لا يرى أثر حب الله في والده، سيجد صعوبة في تصديق هذا الحب، فضلاً عن أن يشعر به.

اللغة التي يفهمها قلب الطفل: العاطفة أولاً

الطفل لا يفهم "العقيدة" كمصطلحات، ولا "الإيمان" كتعريفات… بل يفهمه كشعور.
فالقلوب الصغيرة لا تُفتح بالمواعظ، بل بالأمان العاطفي.
والطفل بطبيعته يتعلّق بمن يمنحه هذا الأمان… فهل يشعر طفلك بالأمان حين يسمع اسم "الله"؟
هل يطمئن قلبه حين تقول له: "الله معك"؟ أم يرتبك ويخاف ويتخيل العقاب؟
في كثير من البيوت، نرتكب دون قصد خطأ فادحًا:
نُدخل الطفل إلى عالم الإيمان من باب الخوف لا من باب الحب.
فنقول له:

"الله يراك!"

"الله غاضب منك!"

"الله سيعاقبك إن لم تصلِّ!"

فنصوّر الله وكأنه مراقب صارم أو شرطي ينتظر الزلل…
وننسى أن الله تعالى قدم نفسه لعباده – في أول فاتحة نقرؤها كل يوم – بهذه الكلمات:
"الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ"
[الفاتحة: 3]
فالرحمة كانت أول ما أرادنا أن نتذكره، لا العقوبة.
بل إن الله تعالى يقول في الحديث القدسي:

"أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني..."
[رواه البخاري ومسلم]
فإذا ظنّ الطفل أن الله قاسٍ، لن يشعر بالقرب منه.
أما إذا كبر وهو يظن بالله خيرًا، ويرى فيه الحنان والرحمة والحب، فإن قلبه سيفتح له أبوابه طوعًا.
لهذا، علّم طفلك من اللحظة الأولى:
أن الله يحبّه قبل أن يطيعه.
أن الله يرزقه، ويحفظه، ويهديه، ويستجيب دعاءه.
أن الله خلق له الشمس والبحر والطعام وأمه الحنونة.

قل له كل يوم:
"انظر كم أنت محبوب من الله… أعطاك عينيك لترى، وقدميك لتلعب، وقلبًا ليشعر!"
"الله معك حين تخاف، يسمعك حين تحزن، ويفرح بك حين تبتسم!"
بهذه اللغة، سيشعر الطفل أن الله ليس فكرة غامضة ولا قوة بعيدة، بل هو قريب، جميل، حنون… يحبه ويعتني به.
يقول الله سبحانه وتعالى:
"إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ"
[هود: 90]
فكيف لا نبدأ مع أطفالنا بهذا الوجه الجميل من الإيمان؟
نعم، في وقت لاحق، سيتعلم أن لله صفات الجلال، وأنه يُحاسب ويُقيم العدل…
لكن البداية لا بد أن تكون بالحب، لأن الحب هو ما يربط قلب الطفل بالله إلى الأبد.
فالخوف قد يمنعه عن الخطأ مؤقتًا،
لكن الحب... هو الذي يجعله يشتاق إلى الله كلما كبُر، ويعود إليه كلما ضل.

اجعل الله حاضرًا في التفاصيل الجميلة

هل جرّبت أن تمسك بيد طفلك، وتحدّق معه في السماء عند الغروب، ثم تهمس له:
"انظر كم هذا اللون رائع... من الذي أبدعه؟"
أو تشاركه قضمة من فاكهة حلوة، وتقول له مبتسمًا:
"من أعطانا هذا الطعم اللذيذ؟ سبحان الله!"
هنا، في هذه اللحظات العابرة… تُصنع التربية الإيمانية الحقيقية.

نعم، فالتدين لا يُبنى بالخطب الجافة ولا بالمواعظ المعزولة، بل بالتأمل الحيّ، والمشاركة الشعورية، والدهشة الصادقة التي تُربط دومًا بالله.
قال الله تعالى:
"أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلِقت، وإلى السماء كيف رُفعت..."
[الغاشية: 17-18]
القرآن يدعونا إلى النظر، التأمل، التساؤل… لا فقط الحفظ.
وكما يخاطب الكبار بذلك، فإن الأطفال أولى بأن نوقظ فيهم هذه النظرة التأملية.

فكل لحظة جميلة في يوم طفلك، هي فرصة ذهبية لزرع الإيمان، لو أحسنت استثمارها.
عندما يُشفى من مرض: "الحمد لله، الله هو الشافي."
عندما تنجحون في السفر سالمين: "الله حفظنا!"
حين تسقط الأمطار: "الله أرسل لنا الخير!"
حين ينجح في شيء: "الله أعانك، بارك الله فيك."

يقول الله تعالى:
"وما بكم من نعمةٍ فمن الله"
[النحل: 53]
فكل نعمة، من بسمة طفل، إلى رائحة خبز طازج، إلى لعبة جديدة…
هي مدخل للتواصل العاطفي بين الطفل وربه.
كل ما على الأب أو الأم فعله: أن يُشير إليه بلطف، ويستحضر اسم الله معه بعفوية ومحبة.
حين تُصبح هذه الإشارات عادةً يومية، دون إكراه،
سيشعر الطفل أن الله ليس فقط موجودًا في المسجد أو في القصص، بل حاضرٌ في يومه، في سروره، في خياله، في كل ما يحب.
وهكذا، يربط الطفل النعم بالله، ويربط الله بالفرح، لا بالخوف فقط.
وكلما كبر، كبر معه هذا الرابط، وازدادت محبته لخالقه.
تذكّر دائمًا:
أنك لا تحتاج إلى درس طويل لتغرس الإيمان، بل إلى لحظة صادقة واحدة مليئة بالدهشة… تقول فيها: "سبحان الله، ما أعظمك!"
ويقول هو بعدك، ببساطته الطفولية: "أنا أحب الله."

القصص... الجسر السحري لغرس القيم 


القصص ليست مجرد حكايات وقت النوم، بل هي اللغة التي يحبها قلب الطفل، ويفهم بها العالم، ويكتشف من خلالها الله.
فبينما يقاوم الطفل التعليم المباشر، وينسى المحاضرات والنصائح، تجده يظل يذكر القصة التي بكى فيها أو ضحك، القصة التي لمسَت قلبه لا عقله فقط.

الطفل لا يحفظ التعريفات، لكنه يعيش المشهد.
فإن سمع عن نبيٍّ دعا الله في الظلمة فأنقذه، سيتعلّم أن الدعاء أمان.
وإن سمع عن امرأة بغيّ غفر الله لها لأنها سقت كلبًا، سيتعلّم أن الله رحيم جدًّا، يغفر حتى بزجاجة ماء.
وإن بكى مع يوسف الصغير في البئر، ثم ابتسم حين نجّاه الله، سيشعر أن الله لا يترك من يُحسن الظن به.
يقول الله تعالى:
"نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ..."
[يوسف: 3]
فالقصة في القرآن لم تكن عرضًا جانبيًا، بل كانت وسيلة مركزية لغرس الإيمان وتثبيت الفؤاد:
"وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَ"
[هود: 120]

حين تحكي لطفلك عن نوح، لا تخبره فقط أنه بنى سفينة… بل قل له:
"نوح دعا الله، فاستجاب له… الله لا يرد من يلجأ إليه."
وحين تحكي له عن موسى، لا تكتفِ بالعصا… بل قل:
"موسى خاف، فقال الله له: لا تخف، إني معك. فهل ترى؟ الله مع من يلجأ إليه."
وحين تحكي له عن مريم، اخبره أن الله أرسل لها طعامًا في المحراب، فسيشعر أن الله يعتني حتى بالأطفال الصالحين.

ثم انتقل من القصص الكبرى إلى قصص يومه…
حوّل كل موقف في حياته إلى قصة فيها الله:
إن وجد لعبة ضائعة: "انظر! كأن الله أعادها لك!"
إن سقط وبكى: "الله رحيم، سيخفف ألمك."
إن أكل شيئًا طيبًا: "سبحان الله، من أنعم علينا بهذه النعمة؟"
إن ساعد فقيرًا: "كأنك مثل الصالحين الذين يحبهم الله، فهنيئًا لك."
بهذه القصص الصغيرة والكبيرة، تربط يومه بالله، وتصبح علاقته مع ربه حيّة، قريبة، عاطفية.
وهذا هو الفرق بين من يعرف الله كمعلومة… ومن يحبه لأنه رآه في كل خير حدث له، في كل قصة جميلة سمعها، وفي كل مشهد عاشه.
لأن القصة تشدّ القلب، وتُقرّب البعيد، وتُجسّد المجرد.
لهذا، لا تضيّع هذا الجسر العظيم.
اجعل القصص المفتاح الأول لقلب طفلك…
واختر منها ما يُظهر وجه الله الجميل: رحمته، عفوه، عونه، كرمه، استجابته، قربه.
واجعل من حياتكما اليومية حكاية إيمانية، كل تفصيلة فيها تقول للطفل:
"الله معك، الله يحبك، الله يراك ويهتم بك."

لا تجعل صورة الله في قلب طفلك مرعبة…


في لحظة غضب، قد تقول الأم أو الأب لطفلهما:
"الله غاضب منك!"
"الله سيرسل لك العقاب!"
وهم لا يقصدون الترهيب، بل التوجيه... لكن النتيجة قد تكون أخطر مما يتصورون.

الطفل لا يملك أدوات الفهم المعقدة، ولا يميز بين الخوف من الخطأ والخوف من الله ذاته.
فإذا تكررت هذه العبارات، تبدأ في التكوّن داخله صورة لله مرعبة، قاسية، تراقبه لتؤذيه، لا لتحميه.
وتتحول العلاقة بالله من حب وطمأنينة… إلى توتر وهروب!
والله تعالى يقول في كتابه:
"إن الله بالناس لرؤوف رحيم"
[الحج: 65]
ويقول:
"كتب ربكم على نفسه الرحمة"
[الأنعام: 54]
فلماذا نُخفي هذا الوجه الجميل لله عن قلوب أبنائنا؟
نحن بحاجة إلى تصحيح الجملة، لا إلى كبت التوجيه:
بدلًا من: "الله لا يحبك إذا فعلت هذا"
قل: "الله يحبك، لكنه لا يحب هذا التصرف، وأنت أروع من أن تفعل شيئًا يغضبه."
بدلًا من: "الله سيعاقبك"
قل: "الله يحب أن تكون صادقًا، لأنه يحبك ويريد لك الخير."
الفارق هنا ليس مجرد أسلوب… بل طريقة بناء علاقة الطفل بالله.
طفلٌ يشعر أن الله يحبه ويعتني به، سيحاول أن يُرضيه من حب، لا من خوف.
أما الطفل الذي تزرع في قلبه صورة الإله الغاضب دائمًا، فقد يطيع أحيانًا… لكنه لا يطمئن أبدًا.
وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ:
"بشّروا ولا تُنفّروا، ويسّروا ولا تُعسّروا."
[البخاري ومسلم]
هذا التوجيه النبوي يشمل حتى تعليم الإيمان.
فمن أراد أن يُحبب الطفل في الطاعة، فليجعل طريقها مشرقًا، مليئًا بالمعاني الجميلة:
مثل إن الله يراك لأنك عزيز عليه.
أن الله لا يرضى الظلم لأنه رحيم، ولأنه يُحبك ويُريدك نقيًا.
أن الله يغفر ويسامح لأنه أرحم بك من نفسك.
الخوف من الله شعور راقٍ إذا نشأ من هيبة المحبوب، لا من غضبه وعقابه .
وإن لم يكن الحب هو الجذر، فلن يكون الخوف إلا قيدًا يكسر الطفل حين يكبر، لا إيمانًا ينمو معه.

فاختر لطفلك:
هل تريد أن يخاف من الله؟
أم يخاف على علاقته بالله؟
الأول يجعل بينه وبين الله حاجزًا…
أما الثاني، فيجعل قلبه بوابة مفتوحة دومًا على النور.

زرع الحب يسبق التعليم


القلب أولًا… ثم اللسان

كثير من الآباء يبدأون مع أطفالهم طريق الإيمان من حفظ السور، وتكرار الأذكار، ومراقبة الحركات في الصلاة…
لكن سرعان ما يلاحظون:
الطفل يحفظ، ثم ينسى.
يصلي، ثم يمل.
يردد الدعاء، دون أن يشعر بشيء.
فما السبب؟
لأننا زرعنا الكلمات قبل أن نزرع المشاعر.
علّمناه أن يقول: "الله أكبر"، قبل أن يشعر أن الله عظيم فعلاً.
علّمناه أن يقرأ "الرحمن الرحيم"، قبل أن يلمس كيف أن الله رحيم به فعلاً.
فخرجت الكلمات من اللسان… ولم تلمس القلب.
قال الله تعالى:
"إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلْبٌ"
[ق: 37]
القلب أولاً... ثم السمع والعقل واللسان.

التربية الإيمانية لا تبدأ بالحفظ، بل بالمحبة.
علّم طفلك أن الله أكرمه، حفظه، رزقه، أحبّه وهو في بطن أمه…
فإذا أحب الله، هو من سيسألك: كيف أُرضيه؟ ماذا يقول؟ هل يمكنني أن أقرأ القرآن؟
حينها يصبح الحفظ رغبة، لا واجبًا.
ويصبح الدعاء حنينًا، لا تكرارًا.
وتصبح الصلاة لقاءً، لا حركة ميكانيكية.

وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال:
"أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه..."
[رواه الترمذي وصححه الألباني]
فالحب يُلهم الطاعة، ويُسهّلها، ويجعلها أثمن في قلب الطفل من أي هدية.

جرب أن تقول لطفلك:
"هل ترى كم الله يحبك؟ جعلك ترى وتلعب وتضحك!"
"تخيل أن الله يسمعك الآن… تريد أن تحكي له شيئًا؟"
"الله أعطاك قلبًا جميلًا… هل تود أن تملاه بكلامه؟"
بهذه الطريقة، لا تلقّن الطفل الدين... بل تُشعل فيه شوقًا إليه.

وتذكر:
الطفل لا يذهب إلى ما يُطلب منه فقط…
بل إلى ما يحبّه، ويشتاق إليه، ويرى أثره في وجه أبيه وأمه.
فلا تبدأ بتعليمه كيف يُصلّي…
بل اجعله يشعر أولًا:
"لمن يُصلي؟ ولماذا يحب أن يكلّمه؟"

ما لا يعرفه كثير من الآباء

الإيمان لا يُورَّث كما تُورّث الأموال والعقارات. لا يكفي أن نكون مؤمنين لنضمن أن أبناءنا سيكونون مثلنا. القلوب بيد الله، والهداية من عنده، ولكننا مطالبون بأن نكون سببًا في إلهامهم لا إرغامهم، في جذبهم إلى نور الإيمان لا دفعهم إليه بالقوة.

قال الله تعالى:
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [القصص: 56]
فها هو رسول الله ﷺ، خير من وطئت قدماه الأرض، لم يُوفَّق إلى هداية عمّه أبي طالب، لأن الهداية القلبية ليست بيد البشر، ولكن بالإلهام والمثال الحيّ نكون سببًا في انفتاح قلوب أطفالنا على الإيمان.

والإلهام الحقيقي لا يكون بالكلمات وحدها، بل بالمواقف، بالمحبة، بالصدق، بالعدل، بالرحمة، وبالاحتواء في لحظات الغضب والخوف والضعف. فالطفل لا يتعلّم مما يُقال له بقدر ما يتعلّم مما يراه ويعيشه.

إن السنوات السبع الأولى من حياة الطفل ليست مجرّد مرحلة عابرة، بل هي التربة التي ستنمو فيها أفكاره، ومشاعره، ومبادئه. هي اللبنة الأولى التي ستُشكّل شخصيّته إلى الأبد. وما تزرعه في تلك المرحلة سيبقى في قلبه وإن كبُر.

قال رسول الله ﷺ:
«مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» [رواه أبو داود، وصححه الألباني]
انظر كيف أمر النبي ﷺ بالبدء بتعليم الصلاة منذ السابعة، وهو السنّ الذي يبدأ فيه التكوين الفعلي للالتزام، لا بالإجبار، بل بالتوجيه والمرافقة.

وروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال:
"إن قلوب الأطفال صفحة بيضاء، فاحرص أن تكتب فيها الخير قبل أن تُكتب فيها الدنيا."
فكيف نكتب في قلوبهم؟ بالحبّ، بالحضور، بالتقدير، وبأن نكون نحن النموذج الذي يتعلّمون منه.

ولا تتعجل الثمرة... التربية ليست سباقًا نحو النتائج السريعة. التربية كالغرس، تحتاج إلى وقت، ورعاية، وسقي، وصبر.

قال الله تعالى:
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132]
لم يقل "فاصبر"، بل قال "واصطبر"، أي داوم على الصبر وكرره واحتسبه.

وقال رسول الله ﷺ:
«إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم» [رواه الطبراني وحسنه الألباني]
فكل قيمة نريد غرسها تحتاج تكرارًا واحتواءً، لا توبيخًا واستعجالًا.

ولا تنسَ أن النبي ﷺ، وهو أعظم مربٍّ، استمر 23 سنة في دعوة الناس، صابرًا ومعلّمًا ومحبًّا، فما بالك بطفل صغير يحتاج سنوات من الرحمة والتفهّم والقدوة؟


اصبر... فأنت تصنع أمة

أيها الأب، أيتها الأم...
إنك حين تزرع حب الله في قلب طفلك، فأنت لا تربي فردًا فقط، بل تضع لبنة في بناء جيل يحمل راية الإسلام بقلب محب، وعقل واعٍ، وروح صادقة.

تذكّر أن العظماء لا يُصنعون في يوم، وأن قلوب الأطفال كالبذور، تحتاج وقتًا لتنمو، وسُقيا دائمة من الحنان، والصبر، والدعاء.

قال الله تعالى:
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]
فاصنع من بيتك مدرسة حب، وكن قدوة صدق، واصبر كما صبر الأنبياء على دعوة أقوامهم، فأنت لا تدري، لعلّ في قلب طفلك نورًا سيُضيء للأمة طريقًا يومًا ما.

فمن بذر الإيمان بحبّ في قلب طفله، ربّى بطلًا لا يُقهر… وجنديًّا في جيش الحقّ، ينصر هذا الدين بعلمه، وخلقه، وصلاته، ورحمة قلبه.

اصبر... فإن ما تغرسه اليوم، سيُثمر غدًا بإذن الله، وقد يكون ولدك من الذين يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَيُحِبُّونَهُ.



تعليقات